[مرتضى گزار: روائي عراقي من مواليد ١٩٨٢، البصرة، تخرج من كلية الهندسة بجامعة بغداد سنة ٢٠٠٥، نشر روايته الأولى ”مكنسة الجنة“ سنة ٢٠٠٨، وصدرت روايته الجديدة ”السيد أصغر أكبر“ مطلع هذا العام عن دار التنوير، بيروت. حاوره سنان أنطون]
جدلية: روايتك الأخيرة “السيد أصغر أكبر” رواية فريدة ومتميزة في موضوعها وأسلوبها. وبما أن أشجار النسب والسلالات ثيمة رئيسية فيها، فهلآ حدثتنا عن “نسب” الرواية؟ كيف تشكّلت الفكرة لديك وكيف تخمّرت؟
مرتضى گزار: يقال أن الروايات تولد من الشكوك والكوابيس وسوء الفهم، هذه الرواية تخطيط قديم مثل كل ماكتبت، لايعادل زمن كتابتها زمن تناسل أصواتها، دعني أخبرك هذه القصة: في سنة ١٩٩٥ كان سوء الوضع الإقتصادي ينهش أقوات الأُسر العراقية حتى ميسورة الحال منها، وكما تعرف فقد كان على الجميع أن يعمل وكان على الجميع ان يصمت، أتذكر نفسي في قيعان الفاو الخاوية، الأرض المثقبة والنخيل التي جعلتها الحرب الإيرانية العراقية أعواد ثقاب منتصبة بعد اشتعال طويل، كان مئات الكسبة يطوفون في أرض المعركة الحرام بحثًاً عن الشظايا النحاسية بغية بيعها، لازلت اتذكر تلك الرحلة اليومية الطويلة وهيام طفل فوق جلدة تراب تشبه سطح القمر! أعود عند الغروب لبيع لقياتي الخطرة من مخلفات الحرب، لكني عدت ذات يوم مع أصبع متهدل أصبح عديم الفائدة فيما بعد، واحدة من صور تلك الأيام كانت مضمرة في ذاكرتي، عائلة من السود فوق ربوة يحصون أغلفة الصواريخ والشظايا التي حصدوها، ثم سمعت بعد فترة بأن ابن العائلة الكبير قد انتحر؛ لقد رافقتني هذه المشاهد طويلاً، وخلافًا لأصبع الطفل في المدرسة المتوسطة الذي أحمله وأتحسس توقفه عن النمو يومياً، كانت ملامح تلك العائلة تنمو..حتى كتبت "مكنسة الجنة"، لم يفكر أحدهم بالانتحار داخل الرواية ورافقتهم سيدة أرمنية تدعى تيغانوش، حتى قصص صحراء الفاو التي كانت غابة غنّاء تزحزحت ثم اندثرت كأنها ساهمت فقط في قدح شرارة الحكاية: وحالت دون ارتكاب جناية ببلوغرافية عراقية مكررة، ومثل هذا حدث أيضاً مع ”السيد أصغر أكبر“.
هرب الطفل ذاته من المنزل بعد عدة كتب قرأها عن حياة النجف الدينية، ثم هرب من النجف بعد فترة وجيزة، لم ينسجم مع أجوائها القارصة روحياً بالنسبة له، ولم تتطابق صورتها مع ما نحتته في باله كتب العرفاء ومشايخ علم الكلام. لم تنشأ بيني وبين المدينة صلة مكانية واضحة، ولم يصادفني واحد من شخصيات رواية ”السيد أصغر أكبر“، كل التفاصيل.
جدلية: لأنك انعطفت بالحديث إلى هنا دعني أقول هذا: تقع أحداث الرواية في مدينة النجف التي تغور الرواية في أجواءها وذاكرتها الثرية ومخيالها الشعبي. أنت تكتب عن كل هذه بسلاسة وحميمية العارف. هل هناك علاقة خاصة بينك وبين المدينة؟ وما سرها؟
- نعم، ظهور السيد أصغر اكبر؛ بدأ مع العلاقة بمدينة شديدة التظاهر بهامشيتها أو بمركزيتها إذا رغبت بذلك في جولاتها التأريخية، مولعة بتدوين سيرتها وتصحيحها ومراجعتها، بعد طردها للطفل الممسوس عاد إليها شاباً؛ متأبطًا دفاتر زرق تشبه دفاتر بول اوستر في ليلة التنبؤ، جمع مئات القصاصات وأجرى عشرات الحوارات الصعبة، وكان عليه أن يتظاهر بشتى الأدوار لخجله المفرط وحساسية مطالبه التي جعلت أحد كبار رجال الدين يهمٌّ بطرده، ودفعت الآخر بمطالبته بالاعتذار للبشرية! لما قرأ له ”مكنسة الجنة“!
إلى جانب ذلك؛ كانت صورة النجف وعلاقتها الملتبسة مع السلطة تمثل مصدراً مهماً لخارطة التنقيب في تأريخنا المعاصر، وكان التماس الخطر مع المدينة التي يذهب إليها كل الموتى كما في قرى العالم الآخر في الحضارات القديمة، بل تشحن إليها كل التوابيت الملفوفة ببطانيات عسكرية وكل أطراف الناس المتطايرة في الإنفجارات، هاجساً يؤهلها للعبة الأقيسة في ورشة الروائي، وأعني تلك الأقيسة التي تعشق الأشياء المهمة التي لاتبدو مهمة! صورة مدينة انتابها الناس بمختلف ألوانهم وأعراقهم، ديموغرافيا ساحرة تصهر الجميع حول ملايين القبور المقدسة، تلمع نفسها يومياً بأشجار وأسانيد النسب الشريف، لا أتذكر بالضبط لحظة الإنفعال؛ هل تولدت خلال بحثي عن واحد من أهم كتب النسب النجفية الذي أختفى بعد الإحتلال وأسرّ لي البائع عزم البعض على إعادة طبعة وتحقيقه وغرس بعض الأشجار الجديدة فيه، إم خلال تمعني بإسم (الحاجة طخّة) على هامش مخفي من هوامش أبواب الضريح الكبير، وهي متبرعة ثرية من القرن الثامن عشر، لكني أركن غالباً إلى ترجيح ظهور السيد أصغر أكبر في جولة في أزقة المدينة المتاهيّة، لحظة قد تشبه لحظات ترقي المقامات الصوفية أو تجوال نيتشوي في غابات سيلفيلانا، ثم تراخى مسمار المكتبة الكبيرة التي قرأها الطفل!، وكاد أن يقع عليه. نعم. . .لقد حدث هذا فعلاً، إنها إشارة كافية لنسف كل التحصيلات التي جنيتها، ومحاولة اعتناق مناخ المدينة وشطب تأريخها الرسمي، كل السيّر والشهادات والموسوعات، وحتى الأطاريح الجيولوجية عن أعماق طبقاتها السحيقة ووصف صخورها ورمالها، ومشاريعها الإروائية وتأريخ بحرها الصغير، شطبها أو نسيانها.
جدلية: وما دمنا في هذا السياق، فما هي شجرة مرتضى كزار الإبداعية أو نسبه؟ لمن تنتسب أدبياً وفكرياً ولماذا؟
- لايمكن الإستعانة هنا بحرفة السيد أصغر أكبر، مع أن المحاولة تبدو مغرية، في الأدب تختلط الدماء وتتصاهر الأفكار لكن الكتابة المغايرة لاتحتاج إلى سلسلسة نسبيَّة طويلة، كما إن النصوص لاتحظى بزيجات شرعية في الغالب، حتى الآلهة، حسب تعبير ساباتو، تتداخل أساطيرها وسلالاتها بين الأمم، سحر المغامرة هو أن ترعى ذلك اللقيط اليومي الذي تتركه التأملات عند بابك، ثم تخفض صوت المذياع الذي تبث منه بيانات الكسالى المسؤولين عن إرجاع نصك إلى شجرة النصوص المعيارية المقدسة. لست مزدحماً بالمقولات وأبدو ساذجاً جداً خلال أي حوار شفاهي مع أحدهم صحبة طاولة أو طريق، هناك زمن ضائع دائماً في العمل المضني ونافذة سيارة أطل منها على صحراء عرضها ثلاث ساعات كل يوم، لذا فمطالعاتي انتقائية وأحرص أن تكون محسوبة، فأنا لم أقرأ في السرد لأدباء كبار يعيشون على مبعدة أميال قليلة مني، ولعل كبار الكتّاب العراقيين قرأوا لي أكثر مما قرأت لهم، حسناً، ليس الأمر مأساوياً كما يبدو. . .وأجدني أنتسب فكرياً إلى بضعة أسماك ملونة تمور في عقلي، أعبث بها وأرج مياها بشدة حتى وأنا أعمل أو محدقاً خلال نافذة السيارة.
جدلية: نسيج نصك غني. يتعدد الرواة ومستويات السرد. كيف تنظر إلى التجريب ووظيفته وتبعاته؟
- لا أدري، لكني أرى الأمر هكذا: الرواية تحمل أدواتها معها، مايسمونه تجريباً ينبغي أن ينبع من رائحة النص وشخوصه، بل ينبغي أن توفر الحكاية سبباً للابتكارات فيها، وهكذا كانت نصوص التراث العربي، فالشكل التقني لألف ليلة وليلة يرتبط بظروف الرواة دائماً، والطبيعة الشخصية لأبي الفتح الأسكندري في مقامات الهمذاني يمنح سبباً لتكرار ظهورها، والفضاء المتخيل في "رسالة الغفران" أعطى شكلاً منسجماً لتنقلات النص، ويبقى التجريب مفهوماً مضللاً في الكتابة الجديدة، فلم يعد شرطه تخليق عوالم خيالية كما تقول قواميس النقّاد، لكنه مضمار تقديم علاقات حديثة مع الحياة المسرودة، وهذا شرط مفصلي يتعلق بنموذجنا العربي، فقد حدث من التفريط والتهويم والنسخ الشكلي ما ضيّع الواقعة وطرح الجزء التوثيقي في السرد، فأكتسب التجريب سمعته المتعالية التي لاتأبه لعلاقات الحياة ولاتقدم صورة واضحة عنها، بينما تحتاج الرواية دائماً إلى إدارة ناحجة تضع التجريب في محله؛ أو تضحي به لصالح قيمة ابداعية أخرى داخل النص. ولايعدم التلويح بما يوفره التجريب من دافعية مرحة نحو الكتابة، في حالتي، لا أكتب شيئاً دون التحديق بعدّاد المجازفات الذي يحفر في المجهول.
جدلية: تفكك الرواية بطريقة ذكية التاريخ الرسمي وتنزع هالة القدسية عنه بتهكم واضح؟ ما الدور الذي يلعبه الخطاب الروائي، بوعي أو بدونه، في الانتصار للهامشي وفي منافسة الروايات الرسمية وهيمنتها أو إرباكها؟
- قلتُ إنها مدينة تواظب على تدوين تاريخها، التأريخ الشفاهي وشهادات كبار السن وماتركته لنا بعض هوامش التحقيق من توريخات متناقضة وسرّانية؛ وأشياء أخرى نجدها بخط اليد أحياناً. كل هذا كان ينساب بالتوازي مع النص الرسمي الذي وظيفته الحفاظ على الصورة المنيعة للمدينة، وهذه الرواية تستل مقاطع من التأريخ في شطرها المعني بسرد الماضي وسيرة العائلة، وشرط أن تكون ”أمينة مع التأريخ“ كما يعبر لوكاتش؛ هو المفصل السهل الذي لاتحتاج إلى التخلي عنه، فهي تتطابق مع التأريخ الرسمي مراراً وتخاتله أحياناً، لكن الإحتكام إلى مسارات النص وقرارات شخوصه، وكما هو الحال دائماً في فن الرواية، يرتبط بأدوات أخرى، أيدلوجية أو فنية، خلافًا للتأريخ الذي يحتكم إلى الحقائق وأدوات المؤرخين، وهاهنا نبلغ عقبة هامة في النموذج العربي السردي الذي احتك بالتأريخ، فسمة الندرة هي الغالبة على الأعمال التي لاتخوّل الـتأريخ كل مقاليدها البنائية، ويقع هذا في مجتمعات يشكل التأريخ معبدها ومشفاها اليومي، وكل مكائن الحكي تقوم بشحذ الزوايا الحادة وتدعيمها بدلاً من تليينها وتفكيكها، وهكذا يصبح التعامل مع التأريخ معضلة جديدة وبؤرة تعزز قدسيته وأحكامه النهائية!
هناك مسافة طويلة بين خامة الـتأريخ ومنضدة الروائي، جعلت إيكو يقول بأنه استعان بشخصية إبسو ضميراً مساعداً له ولمؤرخ القرون الوسطى الذي يسكنه، وفي مثالنا: هناك حاجة ماسة لإعادة تمثيل الـتأريخ بضمائر يقظة وحذرة، لأن الحكاية التي تحملها تستوجب أن لاتظهر ملامح المؤرخ، وأن لايفلت لثام الملامح الأخرى، فأي ملمح أخر، غير ملمح الضمير الخيالي، قد يضر بالتناص المطلوب الذي تتوخاه الرواية الـتأريخية الجيدة، وهو التناص مع تأريخ غير مكتوب، مع تأريخ يشبه الخيال الذي ألّفته الشعوب، ومعه تناطح الرواية كيانًا متحركاً يشذب نفسه بنفسه، في ”السيد أصغر أكبر“ يخدع نسّاب خيول قادم من الخليج مجتمع النجف الجواني، ذاك الذي يعيش خارج ظل البيئة الدينية، يعدهم بتوفير أنساب مستقبلية لأجيالهم، يتنبأ لهم بزيجاتهم ومهن أحفادهم ومناصبهم، وبفضله ستتكاثر أشجار نسب وهمية قد يصدقها البعض غير أنها تُولّد هاجساً يعد بمستقبل محتمل بالنسبة للبعض الآخر، مستقبل تستله الرواية من حوادث أًصبحت الآن ماضياً، وفي رف آخر من رفوف تأريخ المدينة، إذا ما أعجبك هذا التعبير! تبرز بعض المفاصل المهمة كأنتفاضة عام ١٩٩١م؛ التي لاتزال متعطشة لمزيد من الفهم والبحث، إنها انتفاضة ضد سلطة متمادية ووحشية، لكنها بذات الوقت، تعبير عن حد المطاوعة والاحتمال. هذه الإنتفاضة أوردتها الرواية مع مسبب درامي وحيد، قد لاينسجم مع روايات السلطة والأحزاب المعارضة لها، ففي الرواية يعود جندي يائس ومنهك وهارب من مأساة غزوة الكويت المحترقة، ويقذف تمثال الرئيس في ساحة المدينة بالرصاص وتشتعل الإنتفاضة، ولعلك سمعت بهذا السيناريو الذي لايتفق معه الكثيرون، لكنه مثال أورده هنا للتعبير عن جنايات الخيال الذي يذعن لأقاصيص الهامش.
جدلية: يطلع علينا بين حين وآخر ناقد يرثي حال الرواية العراقية وإخفاقاتها. ما هو تقييمك للرواية العراقية في العقد الأخير ورأيك بأحكام كهذه؟
- العقد الأخير يعني السنوات التي تلت حدث ٢٠٠٣ الخطير، وأنا أحب أن أتصوره كحدثين : احتلال العراق وسقوط الطاغية، إنه عقد انفتاح أسئلة كثيرة وخروج العديد من الأجوبة من زنازينها ومقابرها الجماعية؛ فيما ظل الكثير منها معلقًا بسبب تعقيدات الأزمات الحالية، المسألة تشبه تطاير أوراق نوتات الكونشيرتو واحدة بعد أخرى بفعل رياح غاضبة، تتلعثم الآلات بالألحان وتقذفها قبل أن تكتمل وتنشغل بالصفحات التالية، لذلك كانت المكتوبات الروائية تصدر من مخارج شتى، هناك أجيال متجاورة ومتنافرة ومشاهد متشظية، وأصابع محتارة، ومعها يحار المراقب الجيد، لذلك برز ذلك الميل لتقصي تأريخ الرواية العراقية، شخصياً لدي انطباع عن تاريخ مزيف للرواية العراقية، وأصغي أحياناً لهذه الأصوات التي ذكرتها، فهي تستند على مقدمات صحيحة وتخلط في طرحها رأياً مقبولاً بآخر يشبه الحكم الظني القاطع، ودعنا نستثني أولاً تلك الحملات التي لاتدخر جهداً للاطلاع وتصفح الجرائد، أقول بأن البحث عن صورة ملتحمة بخصائص الفضاء العراقي في الرواية العراقية هو سؤال نقدي لاينبغي أن يتحول إلى رأي ناسف، يمحو صاحبه إرثاً حقيقياً لازال بعضه قيد الاكتشاف بفعل الطمر السلطوي والشتات الثقافي، والسؤال النقدي الذي تفلت منه وظيفته ويتلكأ في قبول مهمته ستفوته الكثير من السمات الجديدة، وسيفسح مجالاً لعروض الدوريات ومساجلات الأخوان لاحتلال مكانه.
الآراء الساخطة تلك؛ وكما قلت، تحمل في بعض قسماتها، تصورات إيجابية عن مشاغل الكتابة، فتخبرك أحيانًا بتوصيفات حقيقية عن أطنان من الأعمال البائسة التي صدرت بعد الإحتلال وقبله، لكنها وبذات الوقت تغض الطرف عن متغيرات ومعايير متقدمة تتمثل بأعمال محدودة ظهرت في كل مواسم الرواية العراقية، وكل هذا مؤشر مقبول لإنتاج حوار يجذب المزيد من المتلقين تحت خيمة القراءة.
لا أعتبر رأيي في الرواية العراقية الآن مثل التقييم أو المراجعة لها ولمصاطب الممتحنين بدوار الرواية الرائع، غير أني لا أملك رأياً إيجابياً في أغلب ما يصدر حولي. فبالإضافة إلى الخلل المكشوف في البنية السردية لبعض الأعمال، واللغة الغنائية أو التراكيب الفاترة–والتراثية أحيانًا!- التي لاتجتاز بوابات القارئ الإعتيادي ولاتمكث فيها؛ في البعض الآخر؛ ترزح الكثير من الأعمال المكتملة شكلياً تحت وطأة الخلاصة المفاهيمية التي تنتهي إلى سيرة إشكالية عاشها وطن بأكمله، فماذا يعني بالنسبة لنا، لو كانت جميع الروايات تريد أن تخبرنا بالقصة ذاتها!، وهناك خانة ظليلة تصطف فيها بعض الأعمال الحربية، تلك التي تنتمي إلى مزاج الدكتاتورية ولغتها وقافيتها الحادة وهمجيتها، وتجاورها أعمال حزبية إسلاموية يخلص قارئها إلى ضرورة ارتداء درعه فوراً والاستعداد لغزوة قرووسطية، وكلا النموذجين يتحركان في دائرة ثقافية غير مرئية تتعاطى النقد والجدال والمجاملات بفعل ماتدفعه تلك الأحزاب لبضعه نقاد يعتاشون على ذلك. لكن التتبع البسيط يعلمك بوجه ناصع لروايات عراقية تكتب بعيداً عن كل هذا الخراب الإنساني.
جدلية: ما هي التحديات التي تواجه الروائي العراقي والمثقف العراقي عموماً؟
- هنالك سقف قلقٌ للحرية، هنالك رقيب يمشي الآن في الشارع يوزع المنشورات الدينية ويعرقل خطوط السيارات، ولعله سيفرغ يومًا لدس أنفه في الكتب، وسيستغرق الأمر مدة طويلة حتى يفهم. وهنالك سقف مثله داخل الحياة الثقافية، فهي لاتزال غير متسامحة، وثرثرات المقاهي ضارية وعبثية، لانحظى أصلاً داخل العراق بتداول صحي للثقافة، لاشيء غير المكتبات الضيقة ومقاه غادرتها الحميمية وأضواء الحوار الخافتة، إن إصغاءً قصيراً لحوار بين كاتبين؛ يطلعك على شهية فائرة نحو الحياة والمستقبل تنغصها آهات يومية يشتركان بها مع سائر الناس، أن تمشي مع روح تترقب قطعة كروية صغيرة من الحديد تخترق رأسك من الخلف لهو إحساس كافٍ بتفجير تساؤلات جادة؛ تجعلك تتسمر طويلاً فوق كرسي الكتابة أو تنبطح عارياً أمام شاشتك البيضاء، لكنك لاتعثر على دماغ أبيض متوثب للتورط مع عزلة الكتابة الذهنية.
جدلية: نسمع كثيراً بأن ماعصف بالعراق من أحداث في العقود الأخيرة يعطي الكتّاب من المواد الخام ما لا نهاية له. لكن هناك أيضاً، على الجانب الآخر، من يقول إن كل هذه الأحداث الجسام قد تشكل عبئاً استثنائياً على الكاتب العراقي وقد تربكه وتؤدي إلى خسائر فنية وجمالية يسببها هاجس المقاومة الثقافية.
- هذا هو المسار التلقائي لأحداث كبيرة مرت بالثقافة العربية، بعد هزيمة حزيران وحرب أكتوبر كانت الرواية العربية مرتهنة بقدر الحرب، وعراقياً كانت لدينا جلسة قرفصاء سردية مريرة في محجر السلطة وحروبها، مكائن الأنظمة تفتعل الأزمات بحماسٍ بالغ لايمكن لدأب الكتّاب أن ينافسه، فعتلة التفكير للكتابة أبطأ من عتلة الحرب كما يعبر بريخت في جملة تشبه هذه، الخامات الحكائية التي تنتج عرضيًا مع مخلفات المعارك، تخلق بجانبها حمّى لسردها وتوثيقها، وزهواً ينشأ عن الظن القائل؛ بأن تفاصيل حياتنا مكتنزة وعامرة بالروايات وتحتاج إلى محراث أنيق وفزاعة أيدلوجية لطرد المرويات الأخرى، التي ستعبث بحقل المروية المؤكدة، وهكذا نخطو باتجاه المسار التلقائي الذي دجنتنا السلطة على المواظبة عليه، دون أن نلتفت إلى أن قصائد المناسبات هو تقليد لاينسجم مع فن الرواية، وليس من السلامة استعمال لهاث المراحل السابقة وفنونها التعبوية في لحظتنا الراهنة، أما السؤال الذي أنتصب فجأة بعد سنة ٢٠٠٣ العراقية؛ وهؤلاء الذين يبحثون عن رواية عراقية أو كتاب صمداني كبير يفهرس الأوجاع والمحن. فكل هذا سيجيب عنه ضاربو الرمل أو نزلاء مواقع التواصل الإجتماعية، أو المذيعون في نشرات الأخبار أو الباحثون والمؤرخون، أما الروائي الذي لايطمع بإفساد الوقائع أو تدنيسها، الذي يكتب بعيداً عن مايجاوره من روايات الصعاليك والمهووسين جنسياً والحزبيين والطائفيين والطفيليين، فإنه سيجيب بطريقته عن سؤال لايرغب أن يوجهه إليه أحد، ويجاهر بأجوبته التي لايمكن إلا للرواية وحدها أن تقولها، فيقصّ خلالها ماحدث وفقًا لتقويمه الخاص.
في كل مايقال تلتمع بعض الاستثناءات، اللحظات الساكنة النادرة في تأريخنا، تحكي لنا عن خامات أصلية لايطمع فيها أحد، ماتفعله الحروب والمجازر في طبائع الناس ومناخاتهم هو عينه ماتفعله بحكاياتهم، ومثلما تشذب أحلامهم وقدراتهم فإنها تقص أجنحة حوادثهم المسلّية، فالمواد الخام تتفجر مثل ينابيع غزيرة في كل الأزمان، لكن مايحدث الآن هو لحظة تشكّل واستيعاب، وقد لاينتهي هذا التشكل ولن يفهم الجميع ماحدث لهم، غير أن الكتابة لاتنتظر التساقط الممل والمرعب للبثور في وجوه من نجا، وخيارها يبقى قائمًا!
جدلية: ما هو مشروعك الروائي القادم؟
- لا اقوى غالباً على الكشف عن إنشغالي الروائي الحالي، ماأهتم به الآن هو تخطيط قديم أيضاً، وضعت له روزنامة خاصة أتمنى أن تكفيه.